
منذ نعومة أظفارنا، نتخذ من التعبير الفني وسيلة فطرية للتواصل مع العالم. قبل أن نتقن استخدام الكلمات، كانت الأصوات العشوائية والحركات العفوية أدواتنا الأولى للتعبير. مع تقدمنا، بدأت هذه الوسائل البسيطة تتحول تدريجياً إلى رموز وأشكال تعكس مشاعرنا وفهمنا للعالم المحيط. تلك الخربشات العفوية التي كنا نرسمها على الأسطح كانت تعبر عن فرحتنا بالاكتشاف وشعورنا بالقدرة على التأثير في محيطنا.

الدائرة رمز البدايات والأنا
مع نمو الطفل وتطوره، تتخذ الدائرة مكانة خاصة في عالمه الفني؛ فهي تمثل البداية الأولى لفهم الذات. من خلال رسم الدائرة، يبدأ الطفل بالتعرف على أجزاء جسده والتمييز بينها، مما يسهم في تطوير وعيه بذاته. مع مرور الوقت، تتحول هذه الدائرة إلى رمز أعمق يعكس “الأنا”، فتتجسد في وجه الإنسان، الذي يصبح نافذته الأولى لفهم العالم ككيان يتألف من ذات وآخر.
الانتقال بين الرسم والكتابة
في المرحلة التي تسبق إتقان الكتابة، يكتشف الطفل فضاءً ذهنياً فريداً يسمح للخيال بالتدفق بحرية بين الرسم والكلمات. وصف سيغموند فرويد هذه المرحلة بـ(ما قبل الوعي)، حيث تتسرب الأفكار المخفية في اللاوعي عبر الأشكال والخطوط. سواء أكان الشخص طفلاً أو بالغاً، فإن الرسم الحر يمنحه فرصة لاكتشاف الروابط العميقة بين مشاعره وأفكاره.

الخيال بوابة إلى المشاعر المكبوتة
يعد الخيال وسيلة فعالة للتعامل مع المشاعر المكبوتة والتعبير عنها. فعلى سبيل المثال، قد يعاني طفل من صعوبة في التواصل أو التعبير عن مشاعره لفظياً، لكن من خلال رسم بسيط، مثل منزل أو شجرة، يمكنه نقل أفكاره وعواطفه بطريقة غير مباشرة. وينيكوت، أحد رواد علم النفس، يرى أن الخيال المعزول قد يكون غير منتج إذا لم يرتبط بالعالم الواقعي، لكنه يمكن أن يصبح أداة قوية للنمو العاطفي إذا تم توجيهه بالشكل الصحيح.

الفن وسيلة للتحرر النفسي والشفاء
لا يقتصر دور الفن على كونه وسيلة للتعبير، بل يمتد ليصبح أداة للتحرر النفسي والتعامل مع الأزمات. من خلال الرسم أو السرد، يتمكن الفرد من تحويل مشاعره المكبوتة إلى أشكال وقصص ملموسة. عندما تتطور هذه الرسومات إلى قصص مترابطة ذات بدايات ونهايات، تصبح جزءاً من الواقع الذي يمكن مشاركته مع الآخرين. على سبيل المثال، قد يتشارك الطفل والديه في رواية قصصه، مما يخلق مساحة مشتركة تعزز العلاقات وتوفر فرصة للشفاء النفسي.

الفن لغة التواصل بين الوعي واللاوعي
الفن، في جوهره، هو أكثر من مجرد وسيلة تعبير. إنه اللغة التي تجمع بين الوعي واللاوعي، مما يمكننا من فهم أعمق لذواتنا وللعالم من حولنا. عندما نتعلم توجيه خيالنا وربطه بالواقع، نتحول من مجرد متلقين للتجارب إلى صانعين لمعانٍ ورموز تعزز من قدرتنا على النمو والتطور. الفن ليس فقط انعكاساً لمشاعرنا، بل هو أداة تمنحنا القوة لمواجهة الحياة بوعي وإبداع.
مراجع ومصادر
Winnicott, D.W. (1971). Playing and Reality. London: Tavistock Publications
Lowenfeld, V., & Brittain, W.L. (1987). Creative and Mental Growth. New York-Macmillan Publishing
Freud, Sigmund. (1908). Creative Writers and Day-Dreaming
Jung, Carl Gustav. (1964). Man and His Symbols